اعداد:محمدالفحله
تجلس مع أصدقائك في جلسة حنين، وتبدأ الذكريات بالتدفق. تتذكر موقفًا من طفولتك، ترويه بتفاصيل دقيقة: من كان موجودًا، ماذا قيل، حتى لون الستائر في الغرفة. تضحك، وتؤكد أن القصة لا تُنسى. لكن فجأة، يقاطعك أحدهم: "هذا لم يحدث أبدًا!"
قد تشعر بالارتباك، أو تتهمه بنسيان الحقيقة، لكن ماذا لو كان هو على حق... وماذا لو أن عقلك هو من خدعك؟
في عالم النفس، تُعرف هذه الظاهرة باسم "الذاكرة الكاذبة" (False Memory) — وهي تذكُّر أحداث لم تحدث أبدًا، أو تذكرها بطريقة مشوّهة. والأدهى من ذلك؟ أن العقل البشري قادر على خلق هذه الذكريات المزيفة بثقة مذهلة، تجعلنا نقسم على صحتها، بل ونبكي أحيانًا تأثرًا بها.
الذاكرة ليست كاميرا... بل مسرح!
خلافًا لما نعتقد، الذاكرة لا تعمل كآلة تصوير تسجّل كل شيء بدقة، بل أشبه بمسرح يُعاد تمثيل المشهد فيه في كل مرة نستدعيه. العلماء يؤكدون أن كل مرة نتذكر فيها شيئًا، نحن لا نسترجع "الأصل"، بل "نسخة" خضعت للتعديل، وفقًا لحالتنا النفسية، تجاربنا السابقة، أو حتى ما سمعناه من الآخرين.
وهكذا، فإن ذكرياتنا تتغير دون أن نلاحظ، وتتحول أحيانًا إلى نسخ مُحرّفة، أو مختلقة بالكامل، دون أن يُدق ناقوس الشك في عقولنا.
تجربة علمية غيرت المفهوم: لوفتوس والذاكرة المفبركة
في تسعينيات القرن الماضي، أجرت عالمة النفس الأمريكية "إليزابيث لوفتوس" واحدة من أشهر التجارب في علم النفس. طلبت من مجموعة من المشاركين تذكر أحداث من طفولتهم، بعضها حقيقي وبعضها مفبرك. من بين الأحداث المختلقة، قالت لهم إنهم "تاهوا في مركز تسوق وهم صغار".
المفاجأة؟ عدد من المشاركين بدأ يسرد تفاصيل دقيقة عن الحدث، رغم أنه لم يقع أصلًا. بعضهم ذكر من كان معهم، وماذا شعر، ووصف المكان! هذه التجربة قلبت الموازين، وأثبتت أن الذاكرة يمكن "زرعها" داخل العقل ببساطة.
لماذا نخترع ذكريات؟
علم النفس يقدّم عدة تفسيرات:
-
الاقتراح والإيحاء:
عندما يُلمّح لنا أحدهم أن شيئًا ما حدث، قد يبدأ عقلنا في بناء سيناريو محتمل له، ثم يُخزّنه كحقيقة. -
الدمج بين مصادر مختلفة:
أحيانًا ندمج بين مشهد من فيلم، وحلم قديم، وحكاية سمعناها ونحن أطفال، لنخلق ذكرى تبدو واقعية. -
العاطفة والضغط النفسي:
في لحظات الحزن أو الصدمة، يميل الدماغ إلى ملء الثغرات في الذكرى، فيصنع أحداثًا "منطقية" لم تحدث. -
رغبتنا في الانتماء أو التفاهم:
أحيانًا، نقتنع بأننا عشنا شيئًا فقط لأن الآخرين حولنا يقولون ذلك، أو لأننا نرغب في مشاركتهم الذكرى.
خطر الذكريات الكاذبة في قاعات المحاكم
بعيدًا عن الطرافة أو الدهشة، تمتلك الذكريات الكاذبة وجهًا مظلمًا... في عالم القضاء.
في عدد من القضايا، أدّت شهادات شهود اعتمدوا على "ذاكرة" مشوشة أو زائفة إلى سجن أبرياء لسنوات.
تؤكد دراسات أن الثقة العالية في الذكرى لا تعني بالضرورة صحتها. ومع ذلك، يظل كثير من القضاة والمحلفين يربطون بين الثقة والحقيقة، وهو أمر بدأ يتغير تدريجيًا مع تطور علم النفس الجنائي.
نحن ما نتذكره… أم ما نتخيله؟
السؤال الفلسفي هنا عميق: إذا كانت ذاكرتنا خاضعة للتحريف، فهل نحن فعلًا من نعتقد أننا كنا؟
ما الذي يبني شخصيتنا وهويتنا سوى الذكريات؟ وإذا كانت مشوّهة أو خادعة، فهل يمكن أن نثق بأنفسنا حقًا؟
ربما الأجدر بنا أن نتعامل مع ذاكرتنا ليس كحقيقة مقدسة، بل كراوٍ قد يبالغ أحيانًا، وينسى أحيانًا... ويؤلف أحيانًا.
خاتمة: العقل معجزة... لكنه ليس معصومًا
الذاكرة الكاذبة تذكّرنا أن العقل البشري، رغم قدراته الهائلة، ليس خاليًا من العيوب. نحن لا نكذب حين نتذكر شيئًا لم يحدث، بل نعيش تجربة حقيقية في خيالنا، يصعب علينا أحيانًا التمييز بينها وبين الواقع.
وربما في ذلك شيء من الجمال، وشيء من الخطر.
ففي النهاية... من قال إن الحقيقة دائمًا واضحة؟