اعداد: محمد الفحله
في عصر تُهيمن فيه التكنولوجيا على تفاصيل الحياة اليومية، ويُعاد تشكيل الوعي البشري عبر أدوات ذكية وتطبيقات رقمية، تبدو مسألة الهوية أكثر من مجرد شعار ثقافي، بل ضرورة وجودية. وبينما تسعى دول العالم إلى تثبيت حضورها في الثورة الرقمية، يبرز سؤال ملحّ في الساحة العربية: هل يمكن أن نصنع تكنولوجيا تحمل هويتنا، وتخاطب جمهورنا بلغته وروحه وقيمه؟
لسنوات، كنا مستهلكين للتكنولوجيا لا منتجين لها. نستورد التطبيقات، نستخدم المنصات، ونتفاعل مع خوارزميات لم تُصمم لنا، بل صُممت وفق أولويات وأساليب تفكير مختلفة. هذا لا يعني أن التكنولوجيا "الغربية" سلبية، لكنها ببساطة لا تعكس بالضرورة تنوعنا الثقافي، ولا تستوعب الفروق الدقيقة في لغتنا وسلوكياتنا الاجتماعية.
هنا تبرز الحاجة إلى تكنولوجيا بهوية عربية: أدوات ذكية تفهم اللغة العربية بجميع لهجاتها، تطبيقات تحترم خصوصياتنا الدينية والثقافية، منصات إعلامية رقمية تُعيد سرد قصصنا بلغتنا، وبأسلوب يعكس نبض الشارع العربي لا صدى خارجيًا بعيدًا.
وليس الأمر حلمًا مستحيلًا. بدأت بعض المبادرات العربية تضع لبنات أولى في هذا الاتجاه: محركات بحث موجهة للجمهور العربي، أدوات تعليمية تفاعلية تعتمد مناهجنا، تطبيقات ذكية للتعليم الديني، ومبادرات ناشئة في الذكاء الاصطناعي اللغوي العربي. لكنّ الطريق لا يزال طويلًا، ويحتاج إلى تكامل بين القطاعين الحكومي والخاص، ودعم أكاديمي ومجتمعي، وإرادة سياسية وثقافية واعية.
الهوية في العالم الرقمي لا تُحفظ بالشعارات، بل تُصنع بالمحتوى، والبرمجيات، والخوارزميات التي تعكس واقعنا وتطلعاتنا. بلغة أخرى: إذا لم نصنع أدواتنا، سنظل نستخدم أدوات الآخرين، وسنظل نُعرّف أنفسنا بلغتهم، ونُرى بعيونهم.
المفارقة أن التكنولوجيا تمنحنا فرصة ذهبية لاستعادة هويتنا وليس فقدانها. فالذكاء الاصطناعي، والواقع المعزز، وتطبيقات النشر الرقمي، جميعها يمكن أن تُصبح أدوات للحفاظ على اللغة، وتوثيق التراث، وتعليم الأجيال الجديدة بأساليب أكثر جذبًا وفعالية.
نحو تكنولوجيا بهوية عربية، يعني أن لا نُسابق الغرب في نسخه، بل نُبدع من موقعنا، ونُعرّف التقدم بمعاييرنا. لا نسعى إلى الانعزال، بل إلى الحضور القوي بلغة عربية، ورؤية عربية، وأدوات تخدم الإنسان العربي كما هو، لا كما تريده خوارزميات الآخر.