تم نسخ الرابط

بورسعيد: حارس التاريخ على ضفاف القناة.. من رمال الفراعنة إلى قلب الحداثة

بورسعيد: حارس التاريخ على ضفاف القناة.. من رمال الفراعنة إلى قلب الحداثة

بورسعيد - Mohamed Elfahla نشر فى: 2025-02-22 18:52:45 اخر تحديث: 2025-02-22 18:52:45

تتربّع مدينة بورسعيد على رأس قناة السويس كحارسٍ شامخٍ يشهد على تحولات مصر عبر العصور، من أيام الفراعنة حيث كانت أرضًا تتنفس تجارةً وحضارة، إلى اليوم حيث تُعانق الأمواج سفن العالم قادمةً من كل حدبٍ وصوب. إنها ليست مجرد مدينة، بل سِفرٌ مفتوح يروي حكاية صمودٍ وتجديد.

*الجذور الفرعونية: عندما كانت المنطقة "بوابة الشرق"*
على الرغم من أن بورسعيد بحدودها الحالية وُلدت مع حفر قناة السويس في القرن التاسع عشر، فإن تاريخ المنطقة المحيطة بها يعود إلى آلاف السنين. ففي العصر الفرعوني، كانت هذه البقعة جزءًا من شبكة طرق القوافل التجارية التي ربطت وادي النيل بسيناء وبلاد الشام، خاصةً خلال عصر الدولة الحديثة (1550–1070 ق.م)، حيث شكّلت ممرًا حيويًا للتبادل الثقافي والتجاري.  
تشير الاكتشافات الأثرية بالقرب من بحيرة المنزلة إلى وجود موانئ صغيرة كانت تُستخدم لتصدير السلع المصرية كالذهب والكتان، مما يؤكد أن "روح بورسعيد" التجارية ليست وليدة العصر الحديث.

 *القرن التاسع عشر: ميلاد المدينة من رحم المشروع الأسطوري*
مع بدء حفر قناة السويس عام 1859، وُلدت بورسعيد رسميًا كمدينةٍ تحمل اسم الخديوي سعيد، حاكم مصر آنذاك. تحوّلت من قرية صيد صغيرة إلى نقطة جذبٍ للعمال والمهندسين من جميع أنحاء العالم، خصوصًا من فرنسا وبريطانيا واليونان، الذين جلبوا معهم فنون العمارة الأوروبية، والتي ما زالت آثارها قائمة في أحيائها العتيقة.  
بحلول عام 1869، ومع افتتاح القناة في حفل أسطوري حضره ملوك العالم، أصبحت بورسعيد *"لؤلؤة المتوسط"*، وواحدة من أكثر الموانئ ازدحامًا على مستوى العالم، حيث كانت محطة تموين للسفن وقبلةً للثقافات المتنوعة.

 *بورسعيد في قلب المعارك: من العدوان الثلاثي إلى حرب أكتوبر*
لم تكن المدينة مجرد شاهدة على الأحداث، بل كانت لاعبًا رئيسيًا فيها:  
- *1956: ملحمة الصمود*: خلال العدوان الثلاثي (بريطانيا، فرنسا، إسرائيل)، تحوّلت بورسعيد إلى ساحة معركةٍ أسطورية. رغم الدمار الهائل، رفض الأهالي الاستسلام، وأصبحت المقاومة الشعبية رمزًا للكبرياء الوطني، مما أدى إلى انسحاب القوات الغازية تحت ضغط دولي.  
- *1967–1973: سنوات الاحتلال والتحرير*: بعد نكسة 1967، احتلت إسرائيل شرق القناة، لكن بورسعيد ظلت صامدة في الغرب. وفي حرب أكتوبر 1973، كانت المدينة قاعدةً لعبور القوات المصرية إلى سيناء، ليكتب أهلها فصلًا جديدًا من فصول البطولة.

*منارة الثقافة والاقتصاد: بورسعيد اليوم*
اليوم، تجمع المدينة بين عبقرية الماضي وطموح المستقبل:  
- *اقتصاديًا*: يُعتبر ميناء بورسعيد (شرق وغرب) من أهم محركات الاقتصاد المصري، حيث يستقبل 40% من الحاويات المارة عبر القناة، وفقًا لهيئة قناة السويس. كما تُطور المنطقة كمنطقة تجارة حرة جاذبة للاستثمارات.  
- *ثقافيًا*: تتميز بورسعيد بتنوعٍ نادر، فشوارعها تحمل أسماء عربية وأجنبية، ومبانيها الخديوية تُذكر بزمن космопوليتانية (التعددية الثقافية). أما متحفها الوطني فيحوي قطعًا أثريةً من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الإسلامي.  
- *سياحيًا*: تجذب المدينة عشاق التاريخ بشواطئها الممتدة على المتوسط، ومبانيها التراثية مثل "فيلا ماريانو"، بالإضافة إلى مهرجانها السينمائي السنوي الذي يُعد أحد أقدم المهرجانات في مصر.

*التحديات وآفاق المستقبل*
واجهت بورسعيد تحدياتٍ جسامًا في السنوات الأخيرة، من آثار الثورة المصرية عام 2011 إلى الأزمات الاقتصادية العالمية، لكنها تعمل اليوم على استعادة مكانتها عبر مشاريع كبرى، مثل:  
- *تنمية محور قناة السويس*: الذي يهدف إلى تحويل المنطقة إلى مركز لوجستي عالمي.  
- *مشروع "بورسعيد الجديدة"*: الذي يتضمن إنشاء مناطق سكنية وتجارية متطورة.  
- *الاهتمام بالترميم*: كترميم مبنى الجمرك القديم الذي يُعد تحفة معمارية.

 *الخاتمة: مدينة لا تنام*
بورسعيد، التي مرت عليها عواصف التاريخ، لم تفقد بريقها. لا تزال الرياح تحمل لها كل صباح أنفاسًا جديدة: أنفاس تجارٍ قادمين من الصين، وسياحٍ فرنسيين مفتونين بأساطير القناة، وشبابٍ مصريين يحلمون بمستقبلٍ يليق بتاريخ أجدادهم الفراعنة. هنا، حيث يلتقي الماضي بالمستقبل، تكتب بورسعيد فصلها الجديد بيدٍ واثقة، كما كتبت دائمًا

 

*بقلم: [محمد الفحله]*