في ظل الانتشار الكثيف للمنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، تحولت الشائعات إلى سلاح ذي حدين في مصر، قادر على تفكيك الثقة بين المواطنين والدولة، وإثارة الفوضى في لحظات، بل وتحويل الأكاذيب إلى "حقائق مُسلَّمة" في عقول البعض. فما حجم الخطر الحقيقي للشائعات؟ وكيف تتعامل مصر مع هذه الظاهرة التي تهدد أمنها القومي؟
*جذور الأزمة: من الإشاعة العابرة إلى الكارثة الوطنية* ليست الشائعات وليدة العصر الرقمي، لكن سرعة انتشارها صارت مُقلقة. ففي عام 2017، أثارت إشاعة عن غرق عبارة "الوراق" ذعرًا جماعيًا، ما أدى إلى مصرع العشرات خلال تدافعهم للفرار من منطقة وهمية. هذه الحادثة كشفت كيف يمكن لكذبة مُختلقة أن تتحول إلى مأساة حقيقية في دقائق. اليوم، مع وجود أكثر من ٦٢ مليون مستخدم للإنترنت في مصر (طبقًا لبيانات ٢٠٢٣)، أصبحت البلاد ساحة خصبة لنشر الأخبار الزائفة، خاصة في أوقات الأزمات كجائحة كورونا، حيث انتشرت إشاعات عن "علاجات سحرية" أو "مؤامرات لقاحات"، مما عرقل جهود المواجهة.
*السياسة والشائعات: لعبة النار* لا تقتصر خطورة الشائعات على الجانب الاجتماعي، بل تمتد إلى زعزعة الاستقرار السياسي. فخلال السنوات الماضية، استُخدمت منصات التواصل لنشر أخبار كاذبة عن انهيار اقتصادي أو انقلابات عسكرية، بهدف إضعاف ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة. تقول د. منى عزت، الخبيرة في الشؤون الأمنية: "بعض الجهات الخارجية تستغل الشائعات كجزء من حروب الجيل الرابع لاختراق الدول دون رصاص".
### *التكلفة الاقتصادية: عندما تُهدر المليارات بسبب كذبة* في ٢٠٢٠، تسببت إشاعة عن نقص الدقيق في موجة شراء عشوائي، اضطرت الحكومة إلى تكثيف الاستيراد بتكلفة إضافية بلغت مليارات الجنيهات. كما تؤثر الشائعات على الاستثمار؛ فإشاعات مثل "فرض رسوم على تحويلات المصريين بالخليج" تسبب هروب رؤوس الأموال. وفقًا لمركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء، تكبدت مصر خسائر بقيمة ٢٥ مليار جنيه سنويًا بسبب الشائعات بين ٢٠١٨ و٢٠٢١.
*المرأة والشائعات: ضحية سهلة في عالم افتراضي* تُعد المرأة من أكثر الفئات تأثرًا بالشائعات، خاصة في المجتمعات المحافظة. فحملات التشهير عبر "تيك توك" أو "فيسبوك" دمّرت حياة العشرات، كما في قضية "منشورات العار" التي انتحرت بسببها شابة في الإسكندرية عام ٢٠٢٢ بعد تداول صور مفبركة لها. تؤكد المجلس القومي للمرأة أن ٤٠٪ من قضايا العنف الرقمي ضد النساء في مصر تعتمد على نشر شائعات مغلوطة.
*مواجهة الشائعات: بين القوانين الرادعة والتوعية المجتمعية* تبذل الدولة المصرية جهودًا متعددة للحد من الظاهرة، منها: ١. *تشريعات صارمة*: مثل قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية (قانون ١٧٥ لسنة ٢٠١٨) الذي يُجرّم نشر أخبار كاذبة بعقوبة تصل إلى السجن ٥ سنوات. ٢. *منصات تفنيد الشائعات*: كـ "الفحص.كوم" التابع لمركز المعلومات، الذي ينشر حقائق يومية لمواجهة الأكاذيب. ٣. *حملات توعية*: بالشراكة مع الأزهر والكنيسة، لتثقيف المواطنين بخطورة تداول المعلومات غير الموثوقة.
*الخلاصة: الشائعات.. معركة وجود* ليست الشائعات مجرد أكاذيب عابرة، بل هي اختبار لوعي المجتمع وقدرة الدولة على حماية نسيجها الوطني. يقول الكاتب الصحفي محمد علي: "المواطن شريك في المواجهة.. مشاركة منشور دون تحقق جريمة لا تُغتفر". ففي عصر الصورة الخادعة والذكاء الاصطناعي القادر على تزوير المقاطع، تصبح الحقيقة درعًا وطنيًا يجب أن نحملها جميعًا.
|